يستهل أستاذ الطب النفسي الكبير
د / أحمد عكاشة , كتابه الصادر مؤخرا عن دار "الشروق" بوصف حالة المصريين الذين يشكون من تراجع الأوضاع الأخلاقية، ويرى المؤلف بكتابه "ثقوب في الضمير" أنه لا يوجد معنى للضمير أدق من التعبير القرآني العظيم "النفس اللوامة" أو الرقيب الكامن في كل إنسان والذي يحاسبه حسابا عسيرا عما بدر منه، وعلى مستوى المجتمعات يتحول هذا الضمير لأمر عام يحد من ألوان الإنحلال والجرائم
د / أحمد عكاشة , كتابه الصادر مؤخرا عن دار "الشروق" بوصف حالة المصريين الذين يشكون من تراجع الأوضاع الأخلاقية، ويرى المؤلف بكتابه "ثقوب في الضمير" أنه لا يوجد معنى للضمير أدق من التعبير القرآني العظيم "النفس اللوامة" أو الرقيب الكامن في كل إنسان والذي يحاسبه حسابا عسيرا عما بدر منه، وعلى مستوى المجتمعات يتحول هذا الضمير لأمر عام يحد من ألوان الإنحلال والجرائم
ولكن عكاشة يرى أن الضمير الاجتماعي العام أصبح يتعرض إلى هزات وثقوب أصبح ينفذ من خلالها ما لا يجوز أن يغض الطرف عنه والذي كان في الماضي يسبب استنكارا واسعا؛ فمثلا أصبح أمرا مألوفا مسائل الاستيلاء على المال العام، إفساد المرافق الحكومية، قبول الرشوة أو اعطاؤها، كما أن الإعلام ساهم بدورٍ كبير في ذلك حيث أصبح يؤسس لـ "الشطارة"، و"الفهلوة" أكثر من الاعتناء بقيمة العمل
الانتماء
يأسف المؤلف - رئيس اتحاد الأطباء النفسيين العرب- من انعزال المواطن المصري وشعوره بالاغتراب وعدم الانتماء للوطن، وأن الهدف العام للمصريين أصبح الحصول على المال الذي يعينهم على مواجهة أعبائهم الشخصية المتزايدة، ويرجع السبب برأيه إلى أن الدولة تعتني بحقوقها دون النظر لحقوق أفرادها قائلا: لا يزال أصحاب نظرية أن الشعب قاصر والحكام هم الأوصياء عليه متمسكين بنظريتهم نشيطين في تطبيقها بكل الوسائل ، يريدون من المواطن أن يحتشد كلما دعت حاجتهم هم إلى الاحتشاد، يفكرون بمصالحهم فقط دون مصلحته، فعلى المواطن أن يدفع للدولة ما تقرره حقا لها فيما يملك! وإذا ثبت أن له حقا فلا يسترده
وهكذا تتنوع الخبرات المرة لهذا المواطن المصري، إلى الحد الذي يجعله غير عابئ بشئ في الوطن، فإذا حدّث أحد هذا المواطن عن أمر من الأمور العامة بادر محدّثه على الفور "ياعم، يعملوا اللي يعملوه..البلد بلدهم"، وقد نجد مواطنا آخر وقد اتسم بالعدوانية الشديدة على كل ما يمت للملكية العامة بصلة، يحطم أو يمزق هنا وهناك إذا لاحت له الفرصة، يتهرب من ضريبة واجبة أو يغافل محصل سيارة النقل العام، وإذا استطاع اقتلع شجرة نابتة في الشارع أو يدهس النجيل الأخضر عمدا
الشخصية المصرية
يؤكد المؤلف أننا لا نستطيع أن نعمم على أي شعب سمات خاصة في شخصيته لأن كل السمات تتواجد بين أفراد الشعب بطرق متباينة، ولكننا نستطيع أن نصف السمات الغالبة على شعب معين، فالشخصية المصرية على سبيل المثال تتميز بالانبساطية وحب الاختلاط والدفء العاطفي، وسهولة الإيحاء فيما يسمى "بطيبة القلب" مع الإحساس بالمسئولية الأسرية والانتماء والتماسك مع الدين والأسرة أكثر من الوطن
ومع ذلك توجد بعض السمات التي تحتاج لإيضاح وتعديل حتى نستطيع أن نواكب ثورات العالم التكنولوحية فالكثير من المصريين يتميزون بما يسمى بالشخصية السلبية العدوانية والاعتمادية التي تتميز باعتماد شامل على الآخرين أو السماح لهم بتولي مسئولية جوانب هامة في حياة الشخص، كما أننا نلحظ أن أحدهم يكثر من النقد والسخرية من سلوكيات يقوم بها هذا الشخص ويسقطها على الآخرين فهو ينتقد التسيب ولكنه يمارس نفس السلوك، كذلك تسقط هذه الشخصية كل الكوارث على السلطة دون أن تقوم بأي عمل إيجابي في مواجهتها
ويكثر المصريون من النكتة السياسية ما يعبر عن نقدهم الدائم للأوضاع، ولكن بدأت تتنامى لديهم الاستكانة ثم التقوقع حول الذات والأسرة بغض النظر عن المبادئ، وعدم التواصل والمثابرة والتغير المستمر والعجزعن الابتكار، والتصور الخاطئ للدين، وإهمال الواقع المادي والانغماس في القرارات الانفعالية والعاطفية وأخيرا فوضى اللغة، وترتفع نسبة هذه الشخصية في البلاد العربية بسبب وسائل التربية والممارسات السياسية القائمة على الطاعة العمياء
البلاد النامية
ينتقل الكتاب للحديث عن المشاعر المتناقضة التي تكنها شعوبنا العربية النامية للولايات المتحدة الأمريكية حيث أننا ننظر إليها بمزيج من الإعجاب والعداء في آن واحد
ويرى المؤلف أن هناك محركات نفسية مفهومة وواضحة وراء هذا المزيج من المشاعر، التي أدت مؤخرا إلى زيادة الشعور الدائم بالإحباط الكامل عند شعوبنا بل شعوب العالم النامي كله على السواء! ومن الأسباب التي يسوقها عكاشة لتفسير هذه المشاعر المتناقضة هي أن النظام العالمي الجديد أصبح هو النظام الذي وضعته أمريكا وحلفاؤها في العالم، والرضاء الأمريكي عن الآخرين يتحدد الآن بقدرما يستطيع الآخرون إثبات أنهم خاضعون تماما لهذا النظام الأمريكي!، وترفع الولايات المتحدة الأمريكية كثير من الشعارات التي يفضح تطبيقها الأمريكي حالة من الازدواجية العجيبة المتمثلة في الكيل بمكيالين دائما حسبما ترى سيدة العالم
فالولايات المتحدة الأمريكية لا ترى ضررا من تطبيق قرارات مجلس الأمن وعقوباته على بعض الدول العربية ليلتزم باقي العرب، وفي ذات الوقت لا ترى حتى الآن في عبث إسرائيل الواضح للعالم بكل قرارت مجلس الأمن ما يدعوها إلى مجرد الضغط الأدبي عليها كي تلتزم ولو مرة واحدة، إن هذه الازدواجية الأمريكية عند الشعوب العربية لا تؤدي في الواقع إلا إلى نمو الإحساس بالعجز واليأس البالغ أمام هذه القوة الهائلة المتصرفة في شئون العالم، لكن هذا الشعور بالكراهية يرافقه شعور آخر هو الإعجاب والانبهار بكل ما هو أمريكي! ابتكارات العلم والاختراعات المدهشة ونموذج الحياة الأمريكية المرفهة وهذا الانفراد بالقوة والاقتصاد العالمي الذي يرتكز على الدولار
وبورصات أمريكا
جمال عبد الناصر
أوضح الدكتور أحمد عكاشة أن هناك اختلافا بين وجهات نظر الأطباء النفسيين حول تحليل شخصية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لكنه أسقط عنه في كتابه ما ألصقه به البعض من أمراض نفسية مختلفة، فهو يرى أن وصفه بالسادية أمر مجحف، كما أسقط عنه ما اتهمه به البعض من معاناته من "البرانويا" وهو جنون يتسم بضلالات واعتقادات خاطئة غير قابلة للمناقشة تجعله في حالة من الشك المستمر والإحساس بالعظمة وهذه أيضا أبعد ما تكون عن صفاته وسلوكياته
ويرى المؤلف أن احدى مشكلات عبد الناصر هي فشله في اختيار معاونيه وعدم قدرته على تحمل النقد، وترحيبه بالمنافقين حوله، بالإضافة إلى أن عبد الناصر كان يتمتع بهيبة جعلته أبا شديدا حتى بالنسبة لمن هم أكبر منه سنا، فبالرغم من عيوب الأب إلا أننا نحبه مع قسوته بوصفه القادرعلى الحماية والعطاء، وهذا خطأ عبد الناصر لأنه جعل من الشعب طفلا يعتمد عليه في رزقه وطعامه، وبدلا من أن يمر الشعب بتجربة النضوج في عصرالديكتاتور، أصيب الشعب بالنكوص إلى مرحلة الرضاعة والطفولة، ولذا كان افتراقه عن الشعب بمثابة وفاة الحامي والأب في آن واحد
وهذه احدى السلبيات التي نعاني منها الآن، فالكل يريد أن يأخذ دون أن يعمل، لقد جعل عبد الناصر الشعب في حالة انبهار وتخدير واستسلام، حين جعل نفسه المسئول الأول والأوحد عن الرزق والعامل والمال والسلطة والكرامة فبات معظم الناس نياما لا يعملون ولا ينتجون
عرف الدكتور أحمد عكاشة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من خلال علاقته بشقيقه الدكتور ثروت عكاشة ( أحد الضباط الأحرار ووزير الثقافة ونائب رئيس الوزراء في عهد عبدالناصر) حيث كان عبدالناصر يذهب إلى بيتهم، عندما كان أحمد عكاشة طالباً في المدرسة، وحضر جانباً من لقاءات ناصر وثروت الطويلة حيث يرى المؤلف أن عبد الناصر كان يتمتع بسمات شخصية أثرت إيجاباً وسلباً على قراراته ومجريات الأمور، وهذه السمات هي: الكاريزما، الاعتزاز بالرأي والاحساس بالأهمية الذاتية وأنه مبعوث برسالة قدرية لانقاذ الجماهير، حب المغامرة، التبرم بالنقد، عشق السلطة، الشك المستمر، وأخيرا التخلص من أعز المعاونين والأصدقاء إذا كان وجودهم سيعوق مسيرته السلطوية
ويحكي عكاشة أنه قابل ناصر بعد عودته من البعثة لدراسة الطب النفسي في لندن، وتهكم ناصر على تخصصه في الطب النفسي قائلا: إن النظام الاشتراكي يقضي على الأمراض النفسية، والإحساس بالحرمان، ثم باغته بسؤاله لماذا إذن تخصصت في هذا الفرع؟ فابتسم قائلا: أعد نفسي لحين ظهور الأمراض النفسية
ولكن عكاشة يقول: أسلوب عبد الناصر في الحديث كان يجعل أي إنسان مهما أوتي من العلم، غير قادر على الدفاع عن رأيه، فلم أستطع دفاعا عن تخصصي ولم أستطع إقناعه بأن الأمراض النفسية قد ازدادات في عهد الاشتراكية لأنه كان قادرا على إنهاء المناقشة بطريقته وهي لا شك تأثير "الكاريزما" التي كانت أهم سماته
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.